الإبداع- الجزء الأول
د . علي بن عمر بادحدح
الإبداع :"ابتداء الشيء وصنعه لا عن مثال"[ معجم مقاييس اللغة 1/209] .
وعند الخليل : تأكيد لمعنى التفرج والأولوية وتعميق له في قوله – معرفاً الإبداع - : " إحداث شئ لم يكن له من قبل خلق ولا ذكر ولا معرفة " [ العين 2/54 ] .
وأما الراغب ففي كلماته وضوح وشمول عندما قال: " الإبداع : إنشاء صنعة بلا احتذاء ولا اقتداء " [ المفردات ص 38 ] .
"والبديع من أسماء الله تعالى لإبداعه الأشياء وإحداثه إياها ، وهو البديع الأول قبل كل شئ " [ لسان العرب 8/6 ] .
فالإبداع إذن فيه أولية وسبق ، وفينه تفرد وتميز، وفيه إنشاء وصنع .
إنه وقدة الفكر المنطلقة من إسار القيود المعتادة ، ونظرة التأمل التي ترى الأشياء من زوايا أخرى ، وعمق التركيز الذي يغوص في أعماق الذات لا في ظاهرها ، وفي كنه الأشياء لا في أشكالها ، وفي أسباب العلل لا في أعراضها .
فهل الدعوة في حاجة إلى إبداع ؟ أليست الدعوة إسلاماً كاملاً ، وشريعة صالحة لكل زمان ومكان ؟ والجواب : بلى كل ذلك صحيح ، وليس الإبداع الذي نعرض له هنا ابتداعاً في الدين ، إنه لا يتناول شيئاً من الثوابت الشرعية ، ولا النصوص القطعية ، وإنما ساحته ميدان الاجتهاد في دائرته الفسيحة المضبوطة بقواعد وشروط الأصوليين .
إن الإبداع قد يكون في الخطاب الدعوي المتجدد ، وفي الوسيلة البلاغية المبتكرة ، وفي العرض الإصلاحي المخترع ، وفي الهياكل الإدارية المستحدثة ، وفي النظرات المستقبلية المتقدمة ، وفي الخطط الاستراتيجية المتطورة ، وفي البرامج التربوية المتنوعة ، إنها آفاق رحبة وميادين فسيحة.
وكثيراً ما يتبادر إلى الأذهان عند ذكر الإبداع والابتكار والاختراع إلى العلوم المادية التقنية ، ولكن الإبداع موجود في مجال الفكر والثقافة والدعوة والتربية وسائر العلوم النظرية الأدبية كالاجتماع واللغة وغيرها ، بل إنه في هذه المجالات ربما كان أصعب وأشد ، إذ أن المجال الأول مستند إلى التجربة المادية ، ومعتمد على نتائجها الملموسة ، بينما في المجال الثاني الأساس هو الفكر والتأمل ، والتحليل والاستنباط ، واستعمال القوى الذاتية الإبداعية .
إن الإمام البخاري كان مبدعاً عظيماً يوم استشعر الحاجة وأدرك الأهمية ووضع المنهج وبادر فكان " أول من صنف في الصحيح كتاباً مختصاً به " [ فتح المغيث 1/82 ] ثم رتبه وبوبه فكان ترتيبه مبتكراً ، ثم استنبط الفقه من الأحاديث وجعله تراجم للأبواب فكانت " تراجمه البديعة المنال ، المنيعة المثال التي انفرد بتدقيقه فيها عن نظرائه ، واشتهر بتحقيقه لها عن قرنائه " [ هدي الساري 1/3 ] فحيّر - رحمه الله - العقول بما أبدع في كتابه العظيم .
والإمام المزي صاحب [ تهذيب الكمال ] عبقري مبدع من نوادر الأذكياء ، وكتابه يدل على عقلية فذة إذ جمع فيه جميع رواة الكتب الستة وشيوخهم و رواتهم وجرحهم وتعديلهم بترتيب منظم وتقسيم مبتكر " أتى فيه بكل نفيسة " وكان " عظيم الفوائد ، جمّ الفرائد ، لم يصنف في نوعه مثله ، لأن مؤلفه أبدع فيما وضع ، ونهج للناس منهجا لم يشرع " وصار كتابه هو الكتاب " المجمع على أنه لم يصنف مثله " [ مقدمة تهذيب الكمال 1/6 ] .
وابن كثير كان مبدعاً عندما جمع بين نظامي المسانيد والسنن في كتابه " جامع المسانيد والسنن " الذي قال فيه ابن الجزري أنه " لا نظير له في العالم " .
وابن تيمية قبلهما كان عبقرياً فذاً يوم درس المنطق والفلسفة وهضمهما وصار بهما أعرف من أربابهما ، ثم نقض المنطق وأبطل الفلسفة من داخلها ، وقوض أركانها ، وأتى بنيانها من القواعد حتى خرّ سقفها .
وابن خلدون كان مبدعاً فريداً يوم كتب مقدمته الشهيرة وذكر فيها عن العمران والعلوم وأنماط الحياة فصار مؤسساً لعلم الاجتماع .
والخليل بن أحمد كان مخترعاً عظيماً يوم استقرأ شعر العرب وغناه ونغمه وأعاده وردده ، ثم بعد ذلك وزنه وقطعه ، فوضع البحور الشعرية وضبط القوافي ، حتى ألفت بعده كتب تنص في عناوينها على نسبة تلك العلوم إليه كما في " أهدى سبيل إلى علمي الخليل " والمراد العروض والقافية .
إن الحديث كان معروفاً في عصر البخاري ، وعلم الرجال كان متداولاً في زمن المزي ، والسنة كانت مدوّنة أيام ابن كثير ، والفلسفة كانت فاشية في وقت ابن تيمية ، والناس كانوا يعرفون الحياة الاجتماعية يوم كان ابن خلدون ، والشعر كانت تشدو به الرواة وتسير به الركبان قبل الخليل بزمن طويل ، لكن هؤلاء جميعاً – وهم مجرد أمثلة لم أذكرها على ترتيب معين ولا لغرض محدد – كلهم كانوا مبدعين إذ أعملوا عقولهم فكراً ، وشحذوا أنفسهم عزيمة ، ودققوا وأمعنوا ، وجمعوا وقارنوا ، وحللوا واستنبطوا ، وقعدوا وأصّلوا ، وبادروا وسبقوا ، وبذلك تفردوا واشتهروا ، ونفعوا وأفادوا .
ولعلي أختم هذه العجالة يما يؤكد أن علماءنا يدركون أهمية الإبداع ويدعون له ويحثون عليه ، ولا يقرون الجمود والركود ، فهذا صاحب [ كشف الظنون ] - وهو كتاب عن العلوم والمصنفات - يقول ضمن مقدماته : واعلم أن نتائج الأفكار لا تقف عند حد ، وتصرفات الأنظار لا تنتهي إلى غاية ، بل لكل عالم ومتعلم منها حظ يحرزه في وقته المقدّر له ، وليس لأحد أن يزاحمه فيه لأن العالم المعنوي واسع كالبحر الزاخر، والفيض الإلهي ليس له انقطاع ولا آخر، والعلوم منح إلهية ، ومواهب صمدانية ، فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين مالم يدخر لكثير من المتقدمين ، فلا تغتر بقول القائل : ما ترك الأول للآخر، بل القول الصحيح الظاهر :"كم ترك الأول للآخر ؛ فإنما يُستجاد الشيء ويُسترذل لجودته ورداءته في ذاته لا لقدمه وحدوثه " [ كشف الظنون 1/39 ]
فما أجملها من كلمة ، وما أحسنه من ختام !