الإبداع – الجزء الثاني
د . علي بن عمر بادحدح
في الإبداع سبق ومبادرة ، والقرآن الكريم يدعونا لذلك :{ وسارعوا إلى مغفرة من ربكم } ، { فاستبقوا الخيرات } .. ويمتدح المسارعين السابقين من رهط الأنبياء والمرسلين { أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون } .
وفي الإبداع قيادة وإمامة ، والله - جل وعلا - حثنا على طلب ذلك عندما جعله مطمح عبادة المتقين ، عندما يدعونه مبتهلين { ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما } .
ومبدأ الإبداع الفكر والتفكير ، والقرآن الكريم مملوء بالدعوة إلى إعمال العقل بالتدبر والتفكر :{ قل سيروا في الأرض فانظروا } ، { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها } ، { قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون } ، { أولم يتفكروا في أنفسهم } ، { قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا }.
والدقة والتحري من متطلبات الإبداع ، وأداتهما الدليل والبرهان ، والقرآن ينادي : { قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } ، وطريقهما اليقين لا الظن ، وينعى على أهل الظنون :{ إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين } ، وأساسهما التثبت ، والمبدأ القرآني :{ فتبينوا } مشهور ومعلوم ، وغايتهما الحق ، وإن خالفه الأكثرون :{ وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون } .
والمقارنة والقياس من مهارات الإبداع ، والقرآن ينبه على ذلك : { وما يستوي الأعمى والبصير * ولا الظلمات ولا النور * ولا الظل ولا الحرور * وما يستوي الأحياء ولا الأموات } .. { مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا } .
وفي الاعتبار بالنظر في مآلات الأمور ، وقياس الأشباه والنظائر يقول الحق - جل وعلا - في شأن بني النضير : { يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار } .
والتقليد والتبعية من ألد خصوم الإبداع ، وقد عابها القرآن الكريم ، وجعلها من صفات الذم :{ وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون * قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون } ، وقد نعى الله ذلك الفعل على الكافرين في قصة إبراهيم الخليل :{ إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون * قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين * قال لقد كنتم وآباؤكم في ضلال مبين } . والمصطفى - صلى الله عليه وسلم - أعلنها صيحة تحذير : ( لا تكونوا إمعة تقولون : إن أحسن الناس أحسنا ، وإن ظلموا ظلمنا ، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا ) [ الجامع الصحيح ] .
والخوف من الفشل ، والخشية من الإخفاق ، من عوائق الإبداع ، وفي فسحة الاجتهاد ما يبدد المخاوف ، ويزيل القلق ، فأعمل الفكر ، واجتهد في النظر ؛ فإن أخطأت فلك أجر ، وإن أصبت فلك أجران ، وابتهل بالدعاء :{ ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا }.. وقد ( رفع عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) .
والنمطية والروتين معارضان للإبداع ، والقرآن يلفت النظر إلى التأمل الواعي المتدبر فيما هو ثابت دائم ؛ لئلا يتبلد الحس ، ويركن إلى الإلف ، ويستسلم للعادة :{ قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون * قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون } ، والمصطفى صلى الله عليه وسلم كان يتخوّل أصحابه بالموعظة ؛ مخافة السآمة عليهم ، وابن عباس كان يدرّس في التفسير ؛ فإذا شعر بكفاية الدارسين ، عمد إلى تجديد نشاطهم فقال : " أحمضوا بالشعر أو هاتوا كتب الشعر ".
وإن من أكثر معطيات الإبداع ، أهمية الفكاك من أسر الواقع المستحكم ، وإطلاق أعنة الخيال ، وإحياء روح الأمل ، وتصور الأحوال في غير أنساقها الآنية ، وظروفها الوقتية ، فعندما ضاقت الأمور واشتد الأذى جاء خباب بن الأرت ينادي المصطفى صلى الله عليه وسلم قائلا : " ألا تدعو لنا ألا تستنصر لنا " فذكّره الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بمن كان قبلهم ممن عذبوا عذاباً شديداً إذ قال له : ( كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه ، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين ، وما يصده ذلك عن دينه ، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب ، وما يصده ذلك عن دينه ، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون ) [ الجامع الصحيح ] .
وفي يوم الخندق ، يوم اجتمع إلى شدة الجوع شدة البرد وشدة الخوف ، وأحكم الحصار :{ إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم } ، وعند حفر الخندق أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم بأن أمته ستملك قصور الحيرة والبصرة وصنعاء ، فاطمأنت النفوس وسرحت الخيالات في الآفاق البعيدة .
لم تكن هناك خطوات محددة ، ولا كيفية موصوفة ، ولكنها الآفاق الرحبة ، تنطلق في ميادينها النفوس والعقول ، فتتأمل وتفكر ، ثم تنظر وتخطط ، ثم تعمل وتنفذ ، ثم تبدع وتبلغ ، ويوم كان سراقة يطارد المهاجرين الكريمين ، بشرّه الرسول صلى الله عليه وسلم بتاج كسرى وسواريه ، فما أعجبها من بشرى ، وما أعظمه من منهج وهدي !
بعد تلك الومضات من الآيات والأحاديث ، والقصص والوقائع ، ألا ترى معي أن متطلبات الإبداع مذخورة في ثنايا القرآن والسنة ، ومفاتيحها بين أيدينا لو تأملنا وأقبلنا ! ، ألا ترى أن كل ما يحد من ملكة الإبداع ، ويعوق انطلاقها ، قد وجد التحذير منه والتنبيه عليه ! ثم من بعد ذلك ، ونحن في عالم اليوم الذي اختصرت فيه المسافات ، وتضخمت حتى الانفجار ثورة الاتصالات والمعلومات ، وصارت المستجدات تحسب بالثواني لا بالساعات ، هل يسوغ أن نظل نراوح في أماكننا ونعيد باليوم ما قلناه بالأمس ، ونفعل هنا عين الذي فعلناه هناك ، دون إعمال فكر ، ولا شحذ ذهن ، ولا دراسة تاريخ ، ولا استخلاص عبرة ، ولا نظرة لمستقبل ، ولا نهضة في واقع ؟ كلا ! فليس هذا شأن المبدعين .